المادة    
  1. سعة علم الله وإحاطته بما كان وما لم يكن

    قال الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
    [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم].
    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [فإنه سبحانه يعلم ما كَانَ وما يكون، ومالم يكن أن لو كَانَ كيف يكون، كما قال تعالى: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]. وإن كَانَ يعلم أنهم لا يُردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))[الأنفال:23] وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.

    الشرح:
    قول الإمام الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم]. شرحها المُصنِّف -رحمه الله تعالى- بالعبارة المعروفة التي نعتقدها في حق الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي علمه، وهو أنه جل شأنه يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وهذه هي الإحاطة الكاملة بكل ما هو مندرج تحت إمكان العلم، فيعلم ما كَانَ جل شأنه لا يخفى عليه شيء مما مضى، ولهذا لما قال فرعون: ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)) [طـه:51] قال موسى عَلَيْهِ السَّلام:((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)) [طـه:52] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يعلم الماضي بكل دقائقه وتفاصيله، وأما نَحْنُ فما كلفنا أن نعلم هذه التفاصيل، وإنما كلفنا أن نأخذ العبرة والعظة من مصارع الله في الكون، وأيضاً يعلم الله جل شأنه ما يكون، ويعلم ما سيكون، وهذه هي العقبة التي تقف عندها جميع العقول ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت)) [لقمان:34].
    أي أن كل العقول البشرية، والعلم البشري مهما توصل إليه، ومهما حاول أن يتقدم لا يمكن أن يعرف ما سيكون بعد لحظة واحدة، وفي هذا إفحام من الله عَزَّ وَجَلَّ لهَؤُلاءِ المخلوقين، فهذا العلم استأثر الله به وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الذي يعلم ما كَانَ وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.

    ومن ذلك هذه الآية ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)) [الأنعام:28] فهَؤُلاءِ الكفار إذا وقفوا عَلَى النَّار يقولون: ((يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا))[الأنعام:27] أي يتمنون أن يعودوا إِلَى الدنيا ولئن عادوا فلن يكذبوا بزعمهم، بل ويكونوا من الموقنين، ومع ذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]؛ لأن مسألة الكفر والإيمان ليست متعلقة بقضية أنهم رأوا الحق أو لم يروا الحق؛ بل هي مسألة استكبار وعناد في نفوس الكفار، كما قال الله في آية أخرى ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)) [الحجر:14، 15] فالكبر والعناد الذي في أنفس الكفار يجعلهم لا يقبلون الحق مهما رأوا من آيات الله في ذلك((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا)) [الأعراف:146] نسأل الله أن يعافينا من الكبر ومن الاستكبار والعناد وأن يرزقنا الإخلاص والانقياد والإذعان لأمره والتسليم له.
    وأيضاً قوله تعالى:((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُم)) [الأنفال:23] -على افتراض ذلك- ((لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))[الأنفال:23]
    .
    إذاً هو يعلم جل شأنه ما كَانَ وما سيكون وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.
    قَالَ: وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية.
  2. مسميات الشيعة الرافضة وتأثرها بالقدرية

    قال المصنف: [وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية].
    قوله: [الرافضة], هم الشيعة, وقد سماهم المصنف من قبل الشيعة, حيث قال في موضوع الحوادث لا أول لها [ومن وافقهم من الكرامية والأشعرية والشيعة], وليس هناك فرق بين العبارتين؛ بل هما مترادفتان.
    وأول ما ظهرت هذه الملة لم تكن تسمى: الرافضة, إنما كانت تسمى: الشيعة, والذي يبدو من التحقيق التاريخي أن أول ما أطلق عليهم اسم الرافضة, هو عندما خرج زيد بن علي بن الحسين على بني أمية, فجاءه هؤلاء الرافضة الشيعة الخشبية, فقد كانوا يسمون: الخشبية, فهناك عدة اصطلاحات؛ حتى نفهم الفرق, وإنما هي مترادفات, ولا تعارض بينها.
    ومن أسمائهم: السبئية, نسبة إلى عبد الله بن سبأ.
    ومنها: الخشبية؛ لأنهم اتخذوا سيوفاً من الخشب, ولا يرون القتال إلا مع الإمام المعصوم.
    ومنها: الإمامية؛ لأنهم يقولون: إن الإمامة ركن من أركان الدين التي لا يجوز السكوت عنها بإطلاق.
    ومنها: الإثنا عشرية؛ لأنهم يقولون بإمامة اثني عشر رجلاً, أولهم علي, وآخرهم صاحب السرداب, الذي دخل فيه ولم يخرج! ولن يخرج أبداً.
    ومن أسمائهم: الرافضة, وهو أشهر أسمائهم عند علماء السلف.
    وكلمة (الشيعة) إذا أطلقت في الجملة, فيدخل فيها من حيث الاصطلاح -وليست كلمة شرعية- كل من شايع علياً رضي الله تعالى عنه.
    وكثير ممن شايع علياً, ومنهم علي رضي الله تعالى عنه نفسه, وابناه الحسن والحسين, هؤلاء كانوا -ولله الحمد- على العقيدة الصحيحة, وعلى دين الإسلام الصحيح, أما مثل عمار بن ياسر والمقداد رضي الله عنهما وأمثالهما, ثم من بعدهم كـالأشتر النخعي وأمثاله, الذين كانوا متحمسين في موقفهم مع علي رضي الله تعالى عنه, فهؤلاء يطلق عليهم: الشيعة, وليسوا رافضة؛ بل هم على عقيدة صحيحة وسليمة, وكذلك لم تطلق عليهم كلمة الرافضة, لأنها لم تطلق إلا في أول القرن الثاني.
    فلما خرج زيد بن علي بن الحسين على بني أمية, واجتمع هؤلاء الخشبية وأمثالهم ممن يدعون أنهم أتباع آل البيت, فقال لهم: أتخرجون معي, حتى ونقيم خلافة لآل البيت؟ فقالوا له: بشرط أن تتبرأ من الشيخين وتلعنهما!!
    فقال: معاذ الله! كيف أتبرأ منهما وهما وزيرا جدي؟! أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن تبرأ من الوزيرين فقد تبرأ من الجد, لأنه إذا كان هؤلاء يفعلون هذه القبائح والشنائع ضد الإسلام, ورسول الله يقربهم ويجعلهم وزيرين له, فإنه بلا شك شريك لهم في كل ما ارتكبوه ضد الدين, على ما يقول أولئك الأخباث!!
    فلما قال لهم زيد بن علي ذلك تبرءوا منه, فقال: ( رفضتموني.. رفضتموني..! ).
    فأطلق عليهم اسم الرافضة من ذلك اليوم, ومن ذلك الحين انقسمت الشيعة إلى: رافضة, وزيدية.
    والزيدية كثير منهم لا يلعنون الشيخين أبا بكر وعمر، ولا يسبونهما, وإنما يكتفون بتفضيل علي عليهما رضي الله عنهم, وهذا لا شك أنه خطأ وبدعة منكرة, لكن من لم يلعن الشيخين من الزيدية فلا يصح أن نسمية رافضياً, وكذلك من كان على مثل ما كان عليه زيد, فإنه كان في معظم عقيدته على أصول أهل السنة والجماعة, إلا في مسألة الخروج على بني أمية, وهذه مسألة عملية أكثر منها مسألة اعتقادية.
    الشاهد: أن السلف استخدموا إطلاق لفظ الرافضة عليهم ليميزوا بين من يلعن الشيخين ويتبرأ منهما, وبين من يفضِّل علياً عليهما فقط.
    وقد ذكرنا أن الشيعة افترقت إلى عدة فرق: المفضِّلة, والسبابة, والغالية, والزنادقة.
    إذاً: الرافضة هي هذه الطائفة التي انتشرت وتسمى الإمامية, أو الإثني عشرية.
    وقد ذكر المصنف هذا الموضوع من قبل, ثم ذكره هنا؛ وذلك لأن هذا الموضوع أثير في كتاب ابن المطهر الحلي منهاج الكرامة, وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية, هذا هو الظاهر: أنه بدون الواو؛ لأنه يقال: هو شيعي قدري, وهذا الحلي وأمثاله شيعة وقدرية.
    والشارح هنا ينقل من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ويرد على هذه الطوائف, ومنهم الشيعة الذين أنكروا القدر, وكان لهم هذا الخلاف مع أهل السنة في القدر, وإلا فإنه لم تكن القدرية شيعة؛ فإن أول من تكلم بالقدر غيلان الدمشقي, وهو لم يكن شيعياً, ولم يتلقَ عن الشيعة, لكن الشيعة فيما بعد مالوا إلى مذهب القدرية, وإلى مذهب المعتزلة, وقد بينا فيما مضى بعض الأسباب التي جعلت الشيعة يميلون إلى مذهب القدرية والمعتزلة ويتبنونه.
    ولذلك فإن الزيدية والرافضة الإثني عشرية يعتقدون في الأسماء والصفات والقدر بمذهب المعتزلة, وكتب المعتزلة هي التي تقرر عندهم وتدرس؛ وذلك نتيجة للاندماج الذي حصل من أيام النوبختي وأمثاله في القرن الثالث الهجري وما بعده.